ضمن استراتيجيتها للحفاظ على الثروة المعرفية ونقلها عبر الأجيال ..
صدور ديوان الشيخ عبدالرحمن بن علي المبارك عن أكاديمية الشعر بأبوظبي تحرص أكاديمية الشعر في لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبوظبي على إصدار دواوين شعرية لشعراء رحلوا وذلك في إطار استراتيجيتها للحفاظ على هذه الثروة المعرفية ونقلها للأجيال القادمة، وتعريف الجيل الحالي بما تركه لهم الأجداد من كنز معرفي ولغة جذلة عذبة مليئة باللغة الشعرية العالية.
من هذا المنطلق كان إصدار ديوان الشيخ عبدالرحمن بن علي المبارك، أحد أبرز شعراء منطقة الخليج العربي، الذي توفي في عام 2001م، وهو ديوان شعر نبطي جمعه وأعده ابنه رياض عبدالرحمن علي المبارك، ويقع هذا الديوان في 213 صفحة من القطع المتوسط بإخراج أنيق وقد قسم محتواه إلى 4 أقسام هي “القسم الأول: مع ملوك وأمراء العرب وفيه 29 قصيدة، القسم الثاني: قصائد تاريخية واجتماعية وفيه 19 قصيدة، القسم الثالث: مراسلات ومدائح وفيه 21 قصيدة، أمّا القسم الرابع: غزليات وفيه 32 قصيدة”.
Mubarak2
كل ما يوجد في هذا الكتاب متميز وأنيق حتى الإهداء فيه حيث كتب “إلى روح سيدي الوالد رحمه الله تعالى وفاء لوعدي له وتحقيقاً لأبياته التالية التي وجدتها وأنا أبحث في وريقاته:
لو هو طبع ديواني شفت العجب منظوم
شعر وغزل والحان كل معنى مفهوم
اشغل بني الإنسان حضر وبدو بعلوم”.
وفي كلمة خاصة بمناسبة تحقيق هذه الأمنية لوالده قال “بدأت بجمع الديوان قبل وفاة والدي بسنتين، فبدأت البحث عن قصائده، والحمدلله أن الكثير من شعره كان مكتوباً بخط يده في كتيبات كان يحتفظ بها، فأخذت أقرأ على والدي القصيدة تلو القصيدة، وكان يسمع ويصحح”.
وتابع رياض عبدالرحمن المبارك لقد حرصت أن أقوم بكتابة مناسبة كل قصيدة وتاريخها، وإن كان من الصعب تحديد بعض تواريخ تلك القصائد فقد حاولت أن أضع لها تاريخاً تقريبياً، وهكذا بعد مرور سنة كاملة توفي والدي لذا تحولت تلك الرغبة في طبع ونشر ديوانه إلى وعد لا بدّ من تنفيذه، كما أنني حاولت أن أكون دقيقاً وأميناً على ما أكتبه وأنشره من شعر والدي مع العلم أنّ بعض القصائد لم أتمكن من العثور عليها وبعضها الآخر قد نتمكن من نشره في طبعات قادمة.
أمّا عن فكرة الكتاب فأتت عبدالرحمن من خلال شغفه وحُبّه بقراءة الشعر ومع الأيام ولدى قراءة شعر والده وبخاصة الشعر النبطي بدأ التعلق بهذا النوع من الشعر، ولدى مقارنته لهذه القصائد مع أبيات لشعراء العرب القدماء أدرك أنّ الشعر النبطي يمكن أن يكون جذاباً وعميقاً كالشعر العربي الفصيح بل إنه قد يفوقه في بعض الأحيان، لذا ومن منطلق إحساسي بالمسؤولية ليس فقط تجاه والدي ولكن تجاه أدبنا وتراثنا الشعبي فإنه من غير العدل أن نترك مثل هذا الشعر يذهب هباء منثوراً.
وفي مقدمة الكتاب كتب عبدالرزاق عبدالرحمن المبارك إنّ شاعرنا الذي نقدمه لمحبي الشعر وإلى متذوقي الشعر النبطي خاصة يملك فصاحة وبياناً في أرقى صوره وأدباً يأسر القلوب، وشعراً يضرب في أغوار النفس الإنسانية، مثال على ذلك ما قاله في واحدة من روائعه وهي قصيدة “أمس الضحى” ذائعة الصيت عند متذوقي الشعر الغزلي العفيف وهي أبيات نادرة من تلك القصيدة قالها في عنفوان شبابه عن رؤيا رآها في منامه:
يا زين أنا بك من قديم تشقيت متولع بك يوم عصر الجهاله
والله ما أنسى عشرتك لو تناسيت حبك بقلبي ثابت لا محاله
وتنم هذه الأبيات عن عبقرية الشاعر في صوغ المعاني السهلة في لغة شعرية تأسر القلوب المتعطشة للأدب الرفيع البعيد عن الإسفاف، ومما يجدر الإشارة إليه أنّ الشاعر عبدالرحمن المبارك كان من القلائل الذين يجيدون قول الشعر بنوعيه العربي الفصيح والنبطي، بل وحتى الشعر الشعبي الذي يختص بلهجة بلد بعينه كما هو الحال في بعض قصائده بل وبلهجة قبيلة بعينها، وهذا مما ميزه وأعطاه المكانة بين شعراء الخليج وجزيرة العرب.
يذكر أنّ الشيخ عبدالرحمن بن علي المبارك واحد من قدامى الشعراء والمثقفين ورجالات الدين والعلم في الخليج العربي، فقيه وقاضٍ عُرف بالنزاهة.
ومن خلال القراءة في هذا الديوان نجد أنّ متغير الحياة أسهم في تشكيل تجربته الشعرية، ولأنه كان الأكثر اقتراباً من هذا المتغير حتى أنه حاز الريادة فيه، على مستويات المبنى: أنساق الشكل، اللغة، المفردة، القول، والإشارة، ثم مستويات المعنى: المضمون، والدلالة والتأويل، حيث استطاع من خلال شعره أن يؤنسن أشياء الحياة الجامدة أصلاً، وأن يخاطبها كإنسان، بل أن يمزجها معاً في خلطة عجائبية تشع نورانيةً في الدلالة البعيدة والإحالات المتوائمة والمنسجمة تماماً مع التحولات في الحياة وأشيائها المعاصرة والحديثة جداً.
كما أننا نجد شاعراً يقفز في مساحات الشعر كممثل فوق خشبة المسرح، ثم كمخرج يشير هنا وهناك بحركات موحية بالكثير، كأن يتدخل في الأصوات وطبقاتها، والأضواء ومستويات خفوتها وإشراقها.